
الجزائر- TSA عربي: يعتقد نوري دريس، أستاذ علم الاجتماع السياسي، أن ثورة 22 فيفري الشعبية، عطلت أدوات السلطة في إعادة إنتاج نفسها بل أعادتها إلى زمن الأحادية، كما يرى دريس في حوار مع “TSA عربي” أن المؤسسة العسكرية تبحث عن إعفائها من تحمل المسؤولية السياسية للأزمة وهو ما يجعلها تدعو للمسارعة إلى إجراء انتخابات رئاسية في أقرب الآجال.
عشية الدخول الاجتماعي، يُراهن كثيرون على عودة قوية للحراك، فماهي توقعاتكم؟
لم ينتظر الحراك الدخول الاجتماعي ليعُود بقوة، فالجمعة الأخيرة من شهر أوت كانت جمعة قوية، تجاوز حجم المشاركة فيها توقعات المحلّلين. ومادامت حرارة الصيف و مشقة الصوم لم تثن الجزائريين عن التظاهر، فلا أعتقد أنه سيكون ثمة سبب آخر في المستقبل يجعلهم يعودون إلى منازلهم قبل تحقيق الأهداف التي خرجوا من أجلها: تصحيح مسار الدولة، وحمايتها من الانزلاق نحو الهاوية وهذا عبر تحرير ديناميكية تغيير جذري لنمط اشتغال المؤسسات السياسية، ونمط إنتاج وتوزيع وممارسة السلطة. اقتنع الجزائريون أن انسحابهم من السياسية طوال هذه السنوات، هو الذي أدى إلى انحراف الدولة نحو الفساد، الشخصنة، الزبونية، وجَعل رسم السياسات العامة قضية عصب ومجموعة أشخاص يتنافسون على تقسيم خيرات البلاد في ما بينهم.
تبدو السلطة أكثر عزلة مع إستمرار الحراك، هل تعتقد أنها فقدت كل أساليب المناورة أم أنها تبحث عن ربح الوقت؟
السلطة التي لا تستمد شرعيتها من الشعب عن طريق الاقتراع الشفاف هي سلطة مُنقطعة عن المجتمع. ليس الحراك هو من عزل السلطة، الحراك هو نتيجة عن هذه العزلة، واستفراد السلطة، التي تتشكل من شبكات مصالح وعصب، بتسيير الدولة خارج القانون.
الشيء الذي عزل السلطة هي ممارساتها التسلطية، الزبونية والجهوية في إعادة إنتاج نفسها بدل الاحتكام للقانون، وللانتخابات، وكل هياكل الوساطة (المجتمع المدني، الإعلام، الجماعات المحلية، الأحزاب…) الرسمية التي تكسبها شرعية شعبية، و تسمح بتجديد نخبها بطريقة شفافة وقانونية وسليمة.
ثورة 22 فيفري استطاعت أن تبطل مفعول آليات وأدوات السلطة في إعادة إنتاج نفسها: انتخابات شكلية محسومة مسبقًا، تُنظمها بيروقراطية متحكم فيها بشكل دقيق، وتنشطها مجموعة من الأحزاب والجمعيات والتنظيمات الجماهيرية التي لا تمتلك أية قاعدة شعبية، تستفيد من المزايا والامتيازات مقابل المشاركة في صناعة كرنفال انتخابي ينتهي بفوز مرشح غائب منذ سنة 2013؟.
في نظركم لماذا تدفع المؤسسة العسكرية ومعها لجنة الحوار نحو انتخابات رئاسية في أقرب وقت، في حين لا تزال الظروف غير مهيأة؟
بالنسبة للسلطة، الظروف مهيأة لإجراء انتخابات رئاسية في أسرع وقت. ثمة هوة ساحقة تفصل بين تصورات السلطة للدولة وبين تصورات الأجيال الجديدة من الجزائريين للدولة والممارسة السياسية. السلطة متخلفة عن المجتمع وهذا أحد أسباب عزلتها وعدم قدرتها على النبأ بما حدث ويحدث. بل عجزت حتى عن قراءة صحيحة للثورة السلمية ( الحراك) وفهم أسبابه العميقة ومطالبه التاريخية.
بعيدًا عن قراءة النوايا ونظريات المؤامرة، أعتقد أنه ثمة ما يُبرر استعجال المؤسسة العسكرية بانتخابات رئاسية. هي لا تُريد أن تتحمل مسؤولية سياسية ثقيلة ليست من مهمتها دستوريًا ولا تقنيًا. يجب أن نتذكر أن العسكر انسحبوا رسميًا من ممارسة السياسة منذ دستور 1989، ومنذ ذلك، أصبحت مهمتهم السياسية تكمن في ممارسة رقابة قبلية على (المسؤولين السياسيين) من خلال المشاركة في اختيارهم ورسم الخطوط الكبرى لممارساتهم(وهذا هو السبب الرئيسي للأزمة).
يعتقد العسكر أن الأزمة الحالية سببُها بسيط: بوتفليقة ورجاله خانوا الثقة التي وضعها فيهم الجيش (الذي يجسد وحدة الأمة ووحدة الجزائريين)، فقام بعزلهم وسجنهم، وبالتالي، انتفت أسباب التظاهر وعلى الجزائريين العودة إلى منازلهم للسماح بتنظيم رئاسيات تعفي الجيش تحمل مسؤولية التسيير التقني للشأن العام.
ولإقناع الجزائريين بذلك، قامت السلطة بتشكيل لجنة حوار تكون مهمتهما إضفاء ”شرعية- حوار” على هذا التصور. ولكن، لم تدرك السلطة أن الازمة عند الجزائريين ليست بهذه البساطة والاختزال، وأن طرق تسيير الأزمات التقليدية لم تُعد تنفع أمام جيل يوثق كل شيء بالصوت والصورة. لجنة كريم يونس تشبه تماما لجنة الحوار التي شكّلها بوتفليقة عقب ما يعرف بأحداث الزيت والسكر. نفس الطريقة. لو أن الجزائريين عادوا لمنازلهم، أراهن أنه لن تتعدى لقاءات كريم يونس بعض رؤساء الأحزاب والجمعيات والشخصيات التي التقى بها أويحيى وبن صالح سنة 2012. لكن ضغط الحراك، ووقوفه بالمرصاد ضد كل المناورات، جعل لجنة الحوار والوساطة تسول، حيث أضحى جمع عشرة أشخاص في قاعة وتصويرهم إنجاز في حد ذاته. الحراك لم يعزل السلطة فحسب، بل أعادها إلى زمن الأحادية، وطريقة تسيير كريم يونس للجنته، واستراتيجية الدعاية التي تمارسها القنوات التلفزيونية تعكس انتكاسة إلى ما قبل التعددية، تعكس بدورها عدم قدرة السلطة على مواكبة التطورات الحاصلة في المجتمع. لا يمكن لمن تجاوز سنه السبعين أن يستوعب مطالب الجزائريين بدولة قانون، تحترم فيها الحريات الفردية والعامة. النظام حرم نفسه من كل ما يمكنه أن يفهم به المجتمع، ويساير تحولاته وطموحاته.
تتزايد المطالب الشعبية والسياسية لحل الأفلان، فهل يمكننا القول إن هذا الحزب انتهى؟
الأفلان انتهى منذ بداية التعددية. ولو لا التزوير، والمعاملة الاستثنائية التي حضي بها طوال الثلاثون سنة الماضية، لكان حاله اليوم مثل حال الأحزاب التي انقرضت أو حال تلك التي لا يتعد طموحها الحصول على مقعد أو اثنين في المجلس الشعبي لبلدية كبيرة.
دفعت الثورة السلمية السلطة إلى التخلي مؤقتا عن هذا (الحزب-الجهاز) تماما مثلما فعلت ذلك في بداية التعددية، ولكن في حالة ما وجدت نفسها عاجزة عن نسج شبكات جديدة، أو صناعة (أفلان جديد باسم جديد مثلما فعلت ذلك سنة 1997 حينما صنعت الأرندي، وهذا غير متاح لها على الأقل إلى غاية الآن) فاعتقد أنها ستتمسك به وستحاول نفخ الروح فيه من جديد. لكن الوقت قد فات. من يتصور مثلا أن حتى منظمة المجاهدين سوف تطالب بحل الحزب وإحالته على المتحف؟ نحن أمام ثنائية طرفاها مجتمع جديد، تجاوز عقدة العشرية السوداء، وتجاوز مخاوف الربيع العربي، ويحمل تصورات حداثية للدولة وللسياسة، وسلطة، شاخت، وعجزت حتى عن قراءة المشهد بالطريقة الصحيحة، تبحث عن مخرج لها بأدوات تنتمي إلى العهد السوفياتي.
البعض يتخوف من أزمة اقتصادية وحتى اجتماعية خانقة في حال استمرار أزمة الإنسداد، هل فعلا نحن في مفترق الطرق
نحن في أزمة اقتصادية منذ الاستقلال إلى اليوم تسببت فيها الممارسات الريعية للنظام. حاولت حكومة مولود حمروش سنة (1989-1991)، تحرير فضاء مؤسساتي وقانون يمكن فيه للاقتصاد أن ينمو وينتعش، ولكن سرعان ما تنبه النظام إلى ذلك وأغلق (قوس الإصلاحات) ومنذ ذاك، والسلطة اختزلت الاقتصاد في عملية توزيع الريع.
نحن لا نتملك اقتصاد أصلًا، بل نمتلك جهاز بيروقراطي يقوم بتوزيع عائدات المحروقات بأشكال مختلفة (أجور، دعم السلع، صفقات الاستيراد، التجهيز، الأشغال العمومية،..) والاقتصاد التوزيعي بحكم تعريفه، يشجع على ظهور بؤر الفساد و تحول مناصب المسؤولية في جهاز الدولة إلى هدف و غاية لكل من يبحث عن الامتيازات، و النفوذ والحماية من العقاب. في الاقتصاد الريعي، الدولة لا تمارس وظيفة التسوية والمراقبة للسوق، بل تتحول إلى أداة نهب للمال العام (دولة ناهبة و منهوبة بتعبير عالم السياسية محمد حشماوي).
لا يمكن جمع أية ثروة دون نسج علاقات قوية مع ( الدولة – السلطة). ستون سنة من هذه الممارسات، جعلت الجزائريون مقتنعون بأن الازمة الاقتصادية أسبباها سياسية، وأن نظام سياسي يعيد إنتاج نفسه عبر توزيع الريع، وصناعة الحلفاء والزبائن في العمق الاجتماعي وفي حقل الاقتصادي، لا يمكنه أن يقوم بإصلاحات اقتصادية تسمح بتجاوز الأزمة الحالية. تلويح السلطة بالأزمة الاقتصادية لم يعد يخيف الجزائريين، لأنهم مقتنعون بأن نمط اشتغال الدولة هو السبب الرئيسي في هذه الأزمة ولهذا يصرون على التغيير الجذري له، حيث يكون فيه الحقل الاقتصادي مسيرا بقوانين السوق التي يتساوى أمامها جميع المتنافسين.
السؤال الذ يبقى مطروحا: هل سيدفع انخفاض أسعار المحروقات في السوق العالمية وتآكل احتياطات الصرف السلطة إلى القبول بإصلاحات عميقة على غرار تلك التي قادتها حكومة حمروش في بداية التسعينات؟ أم أن حتى هذا الأمر أصبح بعيدا عن متناول إدراك السلطة؟ لجوء حكومة أويحيى إلى طبع النقود بدل التنازل لمنطق السوق وقوانينه الموضوعية أظهر أنه لا نية لها في الإصلاح، ولا قدرة لها في إدراك مخاطر التسيير السياسي للاقتصاد. تمسك السلطة بهذه الحكومة، لأسباب سياسية بحتة (تمرير انتخابات متحكم فيها ولو جزئيا)، وعدم قبولها تعيين حكومة كفاءات وطنية، يعكس سوء تقديرها لما ينتظر الدولة من صعوبات مالية في الأعوام القليلة القادمة، ويعكس أيضا سطحية تصوراتها للاقتصاد وللدولة على حد سواء. الازمة الاقتصادية في نظر السلطة الحالية سببها انخفاض ظرفي لأسعار المحروقات التي تشكل 97 % من موارد الدولة، و النهب وسوء التسيير الذي مارسته ( حكومة بوتفليقة)، و بالتالي يكفي استرجاع بعض الأموال المنهوبة، ووقف (النهب و الافتراس الممنهج)، ومراقبة صرف المال العام، حتى تستعيد خزينة الدولة عافيتها في انتظار عودة ارتفاع ( حتمية ) لأسعار النفط. يكفي إذا انتخاب رئيس جمهورية جديد، يشكل حكومة تنتظر عودة أسعار النفط للارتفاع لتجاوز الازمة السياسية والاقتصادية الحالية. تتصور السلطة أن استمرار الحراك سيعقد الازمة، في حين يعتقد الجزائريون أن نمط اشتغال السلطة يهدد بزوال الدولة ككل. وبين التصورين المتناقضين، تقع مصالح الشبكات المالية التي ستدافع بشراسة عن مصالحها وحصتها في الريع إلى آخر دولار في الخزينة.
الجزائر – الباحث نوري دريس : “الحراك لم يعزل السلطة فحسب بل أعادها لزمن الأحادية”
- روابط التحميل والمشاهدة، الروابط المباشرة للتحميل من هنا
Post a Comment