مساهمة:
في يوم الثلاثاء الموافق ل 2 أفريل 2019 ، دعا رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق القايد صالح إلى التطبيق “الفوري” للمادة 102 من الدستور. إذ أشار في خطابه قائلا “نعتقد أنه لا حاجة لنا لإضاعة المزيد من الوقت وأنّه يجب التطبيق الفوري للمقترح المتمثّل في تفعيل المواد “7”، “8”، و”102″ و المباشرة في المسار الذي يضمن تسيير شؤون الدولة في إطار الشرعية الدستورية”. عقب ساعتين من هذا الخطاب، أعلن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عن استقالته من خلال رسالة موجّهة إلى المجلس الدستوري، وقد اعتبرت هذه الاستقالة استجابة فورية للضغوط الممارسة من طرف المؤسسة العسكرية على المؤسسة التنفيذية و الحزب الحاكم. لا يعتبر تدخّل الجيش في الشؤون السياسية في الجزائر حادثة نوعية أو حديثة العهد، لقد كانت المؤسسة العسكرية دائمًا العمود الفقري للنظام الجزائري منذ عام 1962. حيث قامت هذه الأخيرة بتعيين و إقالة جميع الرؤساء الذين عرفتهم جزائر ما بعد الاستقلال. في الوقت الحالي، وبالموازاة مع الحراك الشعبي الذي تعرفه البلاد منذ بداية 22 فيفري 2019، تعتزم المؤسسة العسكرية وضع أسس نظام جديد لمرحلة ما بعد بوتفليقة بحيث تكون هي الركيزة الأساسية له، سواءا عبر ضمانها لاستقرار العملية الانتقالية أو عن طريق توجيهها المباشر لهذه المرحلة الحسّاسة. لكن، وخلافا للانقلابات العسكرية السابقة و تدخلات الجيش في العقود الماضية، فإنّ هذه المرحلة متباينة و متمايزة، لكون الشعب هو الذي طالب بتنحية رئيس الدولة و ضرورة إرساء مسار تحوّل ديمقراطي حقيقي. وعلى هذا الأساس نطرح التساؤل التالي: هل من الممكن أن يلعب الجيش الجزائري في المرحلة الراهنة دورا محوريا في ولادة نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد؟
المؤسسة العسكرية بين الانتقال الموجّه و الانتقال التفاوضي:
من دون شك، فإنّ المؤسسة العسكرية جزء لا يتجزأ من نظام ما قبل الانتقال الديمقراطي، وقد تكون المحور الأساسي له. وبناءا على ذلك، من الطبيعي جدا أن يتبنّى أعضاؤها توجّهات و مواقف محافظة اتجاه أيّ محاولة من أجل تغيير الوضع أو دمقرطة النظام السياسي في أيّ دولة، وفي حالات أخرى قد يلجؤون حتى إلى إعاقة المرحلة الانتقالية و الانقلاب عليها. وبهدف تحقيق هذا الغرض، يتبنّى الجيش إحدى الإستراتيجيتين التاليتين: إما يتصرف كقوة سياسية من وراء الكواليس أو يتبنّى واجهة شبه مدنيّة لاستقطاب و احتواء الجماهير الساخطة ضد النظام. حيث تمتلك الجيوش العديد من المزايا التي تسمح لها بشكل واسع الاختيار بين إحدى الآليتين السابقتي الذكر، مثل الصلاحيات التي تخرج عن نطاق المجالات العسكرية البحتة و كذا الحق في هيكلة و بناء العلاقات بين الدولة و الطبقة السياسية من جهة و المجتمع المدني من جهة أخرى. وترتبط مواقف الجيش اتجاه مساري الانتقال و التحول الديمقراطي في أيّ دولة بمجموعة من العوامل التحليلية التي لا تنفصل عن طبيعة تكوينه و ثقافته الداخلية في التسيير و الإدارة.
في المقام الأول، تتحدّد مواقف المؤسسة العسكرية من المسار الديمقراطي بمستويات تورط الجيش في صنع و تجسيد سياسات القمع و الإقصاء و دوره في مأسسة النظام القديم. في دول مثل إيطاليا، البرتغال، إسبانيا ، وتونس، لم تشارك المؤسسة العسكرية بشكل مباشر في الجهاز الإداري القمعي للدولة، في حين ساهمت الشرطة بشكل كبير في تجسيد ممارسات الإقصاء، وهذا ما يبرر لنا استيعاب و تقبّل الجيوش في هاته الدول لمسارات الدّمقرطة. لكن في دول أمريكا اللاتينية و في اليونان، أين لعب الجيش دورا في محوريا في وضع دعائم النظام التسلطي و تورطت المؤسسة العسكرية بشكل مباشر مع الجهاز الإداري القمعي، لاحظنا تحفظا كبيرا و مقاومة لمسار الانتقال الديمقراطي في مراحله الأولى. ثانيا، تلعب مستويات مأسسة و احترافية الجيش دورا أساسيا في الانتقال الديمقراطي، ففي دولة مثل الشيلي و البرازيل كان للجيش المكانة المحورية في تحديد شروط الانتقال على خلاف جيوش الأورغواي، والأرجنيتين، والشيلي (و التي تعتبر أقل مأسسة من نظيراتها). فقد فضّلت هذه الأخيرة تقديم مجموعة من التنازلات مع الحفاظ على جزء معتبر من السلطة التي كانت تتمتّع بها. في هذا الصدد تجدر الإشارة أنّ الجيش الجزائري من الجيوش التي تتمتعّ بمستويات مقبولة من المأسسة، وبالتالي من المحتمل بأن يحاول تحديد أنماط و قواعد الانتقال الديمقراطي في الجزائر في المرحلة اللاحقة.
علاوة على مستويات المأسسة، تعتبر الأنماط المختلفة للتنظيمات العسكرية و مدى تورطها في الشؤون السياسية في مرحلة النظام التسلطي مؤشرا قوياّ لقياس مستويات نجاح الانتقال الديمقراطي. إذ يمكن التمييز في هذا الصدد بين الجيوش الاحترافية و الجيوش الباتريمونيالية (هي تلك الجيوش المرتبطة بالأشخاص وليس بالمؤسسة و بالتالي تكون مستويات الاستقرار الداخلي فيها متوسطة) أو الجيوش الريعية. فالجيش الاحترافي لديه هوية كاربوراتية تتمايز عن هوية السلطة السياسية، هذه الهوية مرتبطة أساسا بالإنتماء المؤسسي و الذي لا ينفصل بالضرورة عن هوية الدولة الشاملة، في حين هوية الجيش الباتريمونيالي أو الريعي تندمج و تتغلغل بشكل كبير مع هوية النظام التسلطي لدرجة يستحيل التمييز فيما بينهما في بعض الحالات. فالجيش الاحترافي تحكمه المبادئ الديمقراطية، ويتم تسييره من خلال قواعد يمكن التنبؤ بها، ويستند على نظام هرمي قائم على الكفاءة و الجدارة المهنية. في الجهة المقابلة، التنظيمات العسكرية الباتريمونيالية أو الريعية تقودها المحسوبية و تتّصف بمستويات عالية من الفساد المعمّم، استبداد السلطة، وهذا ما يجعلها رافضة بشكل كبير لمسار الدمقرطة.
إضافة إلى العوامل السابقة الذكر، تؤثّر الضمانات التي من المحتمل أن تقدّمها السلطة المدنية المنتخبة للجيش خلال المرحلة الانتقالية بشكل معتبر على استمرارية مسار الدمقرطة و نجاح الانتقال السياسي، فالأنظمة العسكرية ذات الطابع العسكري في كل من تركيا، والبرتغال، والشيلي، والبرازيل، ونيكاراغوا، والبيرو، والأورغواي أمثلة نموذجية على استمرار الجيش بممارسة نفوذه و سلطته عبر حكومة مدنيّة. فقد أصرّ الجيش في هذه البلدان على ضرورة ضمان بعض الصلاحيات التي يتمتّع بها مثل الحق في التدخّل في السياسة في حالات الطوارئ، وكذا الحفاظ على استقلاليته عن الحكومة المُنتخبة، الأمر الذي يحرّره من أي نمط من أنماط السيطرة التي قد تمارسها هذه الحكومة، سواءا على الأفراد أو على التمويل العسكري.
أخيرا، دور المؤسسة العسكرية في الأنظمة الانتقالية مرهون أيضا بمستويات التجانس الداخلي لهذه المؤسسة، سواءا تعلّق الأمر بالتجانس الجيلي أو التجانس التكويني ( الدورات التكوينية التي يتحصل عليها الضباط في الدول الخارجية). فالمؤسسة العسكرية ليست بذلك التناسق الذي قد يتضح لنا ظاهريا. ففي الفترات الانتقالية، قد نلمس اختلافات فصائلية متباينة داخل نفس المؤسسة. إذ من المحتمل أن تواجه الجيوش في هذه المراحل الحساسة نمطان من الصراع، وهما: صراع الأجيال و صراع التكوين العسكري، وقد لاحظنا هذا الأمر بشكل جلي في الحالة البرتغالية، أين قاد الضباط الشباب بدعم من مجتمع مدني معبّأ ثورة غير دموية، و بهذا كان الجيش قوة و محرّكا للتغيير، وضد طموحات ومصالح التسلسل الهرمي للمؤسسة.
المرحلة الانتقالية في الجزائر:
حتى لو انتقد الشعب الجزائري التسلسل الهرمي العالي للمؤسسة العسكرية، لا يمكن أن ننفي أنّ هذه الأخيرة تتمتع باحترام وشرعية كبيرين ورثتهما عن جيش التحرير الوطني. و بالرغم من الغموض و التناقضات التي ميّزت العشرية السوداء، فإنه لا يُنظر إلى المؤسسة العسكرية كوسيلة قمعية، فقد تم تخصيص مهام القمع ضد الأفراد خلال هذه الحقبة إلى أجهزة الأمن، والشرطة، والدرك. وهذا الواقع من شأنه أن يخلق قبول للمؤسسة العسكرية لتلعب دور الفاعل في عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد. لكن، وبناءا على العناصر التحليلية السابقة الذكر، كيف يمكن لنا أن نصنّف الجيش الشعبي الوطني؟
من دون شك، لا يختلف الجيش الجزائري عن جميع مؤسسات الدولة المتبقيّة فهو مؤسسة تابعة ماليا للآلة الاستخراجية و عائدات المحروقات. فالجزائر دولة ريعية بامتياز، حيث تمثّل المحروقات 35 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي ، و 75 ٪ من عائدات الميزانية، و 95 ٪ من عائدات التصدير. منذ وصول بوتفليقة، عرفت نفقات المؤسسة العسكرية في الجزائر نموا غير معهود، إذ يشير قانون المالية لعام 2019 إلى ميزانية قدرها ب 12 مليار دولار للجيش، والتي تفوق ميزانية سنة 2000 بما يقارب نسبة 320 ٪. على المستوى الإجمالي، تمثّل الميزانية العسكرية حاليا تقريبا 25 ٪ من ميزانية الدولة، ووفقًا لتصنيف المعهد الدولي لبحوث السلام في ستوكهولم لعام 2016، تحتل الجزائر المرتبة السابعة عشرة والأولى في إفريقيا من حيث تصنيف القوة العسكرية. وفقًا لمركز الموارد و الإعلام حول الاستخبارات الاقتصادية والاستراتيجية، فإنّ الجيش الجزائري يستثمر موارده بكثافة في تنمية و تطوير صناعة الدفاع، إذ بحلول نهاية عام 2019 ، سيتم إنشاء أكثر من 40 مصنعًا وحوالي 30،000 وظيفة في القطاع، ولكن كل هذه الانجازات تابعة بالأساس للاقتصاد الريعي. وبالتالي، فإنّ الجيش الجزائري هو جيش ريعي أو باتريمونيالي و أحد المؤسسات المستفيدة بشكل كبير من عائدات المحروقات، الأمر الذي قد يحتّم عليه لاحقا التدخّل في السياسة والأعمال من أجل الحفاظ على حصته من عائدات المحروقات.
بالإضافة إلى الطابع الريعي و الباتريمونيالي، فإنّ الجيش الجزائري يعاني من صراعات فصائلية داخلية و التي أفرزها التباين الجيلي بين مختلف الضباط و كذا الاختلافات الناجمة عن طبيعة التكوين العسكري لهم. هذا الانشقاق الفصائلي داخل المؤسسة العسكرية الجزائرية ليس حديث العهد، بل هو موجود منذ حرب التحرير. فلا ننسى أنّ جزءا معتبرا من جيش التحرير الوطني بين (1954-1968) كان يشتمل عددا معتبرا من الضباط المنسحبين من الجيش الفرنسي، والتي ساهمت لاحقا في تكوين و تنظيم صفوف جيش التحرير الوطني آنذاك. بعد الاستقلال أصبح الاختلاف و التباين واضحا بين المقاتلين القدامى و الضباط الذين درسوا في أكاديميات عسكرية سورية، عراقية، ومصرية. خلال هذه الفترة أغلب الضباط السابقين في الجيش الفرنسي أكملوا دوراتهم التكوينية، لكن في الاتحاد السوفياتي، وليس في فرنسا، إطار ثقافي وإيديولوجي مختلف تمامًا عن الدول الغربية و حتى الدول العربية. تباين الخلفية التكوينية للضباط خلق نوعا من التشردم الفصائلي العميق داخل المؤسسة العسكرية، والذي يمكن أن نلحظه في بعض المصطلحات التوصيفية الموظّفة من طرف إطارات الهيراركية العسكرية في الجزائر، مثل: “القوميين” مقابل “المحترفين”. لا يقتصر الأمر على التوصيف فقط، إذ يمكننا أن نلحظ هذا الاختلاف في العديد من القضايا الداخلية التي تمس المؤسسة العسكرية، مثل: علاقة الجيش بالسياسة، قضايا تحديث الجهاز العسكري، والتوجهات الاستراتيجية ذات الصلة بالمصلحة الوطنية. كنتيجة لذلك، يمكننا القول أنه لا توجد رؤية وموقف مشترك داخل المؤسسة العسكرية حول دور الجيش في عملية الانتقال الديمقراطي، بل هناك رؤى مختلفة و التي لا تهدّد بالضرورة وحدة و تماسك الجيش كمؤسسة عليا.
بالرغم من الطابع الريعي و الباتريمونيالي للجيش الشعبي الوطني، لا ننفي تنامي فئة من الضباط الشباب داخل المؤسسة، والذين يمتلكون مستويات معتبرة من الاحترافية، والتدريب التقني، والتكوين التعليمي مقارنة بالأجيال السابقة. بدأ هذا المسار الاحترافي مباشرة بعد العشرية السوداء و قد منح صورة مغايرة للمؤسسة العسكرية، بحيث سجلنا حضورا قويا لممثليها على مستوى وسائل الإعلام و الاتصال. بعيدا عن الخسائر البشرية و المادية الناجمة عن الحرب الأهلية في الجزائر، لا يمكن أن نجزم أنّ هذه التجربة الدموية قد فتحت الفرص أمام المؤسسة العسكرية على المستوى الدولي: فالجيش الجزائري، وبحكم خبرته التاريخية، أصبح جزءا من التحالفات الدولية في الحرب ضد الإرهاب و شريكًا لا غنى عنه. وقد أتاح هذا الأمر تنويع التكوينات العسكرية في الخارج والوصول إلى المعدات العسكرية المتطورة، إذ لم تبق علاقات الجيش منحصرة في المعسكر الشرقي السابق أو الدول العربية.
خلال عهد عبد العزيز بوتفليقة، أصبح الجيش لا يظهر اهتمامًا عميقًا بالتدخل المباشر في الشؤون السياسية و تنامت مستويات الاحترافية. لكن هناك عنصر واحد يوحّد الضباط من مختلف الأجيال: الحفاظ على الاستقلال المالي و ضمان جزء من العائدات الريعية. فالاتفاق المحوري بين الجيش و العصبة البوتفليقية لا ينفصل عن المبدأ السابق، إذ وافق الجيش على الابتعاد عن السياسة و عدم الانخراط فيها مقابل الحصول على استقلال مالي كامل، والذي يمكّنه من إنشاء صناعاته الخاصة. عودة الجيش حاليا إلى الساحة السياسية من خلال إجبار بوتفليقة على الاستقالة و الرغبة في إدارة المرحلة الانتقالية قد يؤثر سلبا على مصداقية هذه المؤسسة. إذ يبرز لنا الخطاب الذي ألقاه الفريق القايد صالح في 10 أفريل 2019 مناورتين أساسيتين من طرف هذا الأخير: تبني لهجة فيها نبرة من التهديد في مخاطبة الحراك الشعبي معتمدا على فرضية المؤامرة الخارجية و تقديم وعود بفتح ملفات الفساد. على إثر هذا الخطاب، ولأول مرة بعد 22 فيفري 2019، أصبح المتظاهرون في الشارع يطالبون برحيل القايد صالح بنفسه، فقد أصبح واضحا للعيان أنّ خارطة الطريق المفروضة على الحراك الشعبي من أجل قيادة المرحلة الانتقالية مرفوضة. و هنا نجد أنفسنا أمام فرضيتين أساسيتين حول دور الجيش: إما أن يفقد الجيش مكانته المحورية في المرحلة الانتقالية و التي من المحتمل أن تقوده إلى مواجهة مباشرة مع الشعب أو يفقد قائد الأركان القايد صالح دعم المؤسسة العسكرية.
البروفيسور رشيد اوعيسى:
أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماربورغ بألمانيا
ملاحظة: المساهمات التي تنشر لا تعبر عن رأي الموقع
دور المؤسسة العسكرية في الانتقال الديمقراطي: النموذج الجزائري
- روابط التحميل والمشاهدة، الروابط المباشرة للتحميل من هنا
Post a Comment